الأحد، ١٢ كانون الأول ٢٠١٠

ما بين الوهم والأمل .. قليلاً من البصر ..

حدثتني جدتي , رحمها الله , فقالت ..
’’ في احد المشافي , وفي قسم الأمراض العضيله , كان هناك مريضان في غرفه صغيره , لها نافذه واحده , احد هؤلاء كان عاجزاً لا يستطيع الحراك , والآخر ورغم مرضه الفتاك , كان يستطيع الجلوس في فراشه ساعه باليوم , فما كان من الأطباء إلا أن وضعوه بجانب النافذه , والآخر في الزاويه الأخرى البعيده ...
كل صباح , كان المريض’’ القادر’’ , يجلس امام النافذه ساعه , ويتأمل طويلا خارجها , فما كان من المريض المقعد إلا أن طلب منه يوما وبرجاء ان يصف له ما يراه من النافذه , علّ ذلك يساعده قليلا على تحمل عجزه عن الحراك , فإستجاب المريض الأول لطلبه بيسر وسرور , وبدأ يروي له مشاهداته عبر النافذه الصغيره ....
وعلى مر الأيام , كان المريض الأول يسرد لشريكه الذي اعجزه المرض , صوراً من الحياه الطبيعيه السعيده التي يراها عبر النافذه , فحدثه عن تلك الحديقه الواسعه الخضراء الموجوده مقابل النافذه , وعن الأشجار المعمره والمثمره التي تزينها , وعن الأمهات الذين يصطحبون اطفالهم كل صباح الى تلك الحديقه الجميله ليلعبون ويسرحون ويمرحون , وحدثه عن ذلك العجوز الذي إعتاد القدوم دوما الى الحديقه ليطعم الحمام والعصافير الملونه الجميله ببعض الحبوب التي تملاء , بالعاده , جيوبه , وسرد له كيف كانت العصافير تغرد بمجرد قدومه , وكيف ان بعضها إعتاد الهبوط على أكتاف ذلك الكهل , لتأكل من يداه بعضاً من حبوبه اللذيذه , كما حدثه عن هؤلاء الرجال الذين يسعون صباحاً الر رزق كريم , وعمل مثمثر , وعن هؤلاء الصبيان والصبايا , والشباب والشابات الذين يسعون لمستقبل عامر وسعيد من خلال العلم والدراسه , والمثقلين بحقائبهم الدراسيه كل صباح في طريقهم للمدارس والجامعات ....
ومرت الأيام , وكان فيها المريض المشلول ينتظر بفارغ الصبر تلك الساعه التي سيجلس بها شريكه امام النافذه , ليرى من خلال عيونه , الحياه الطبيعيه السعيده ...
وفي احد تلك الأيام , طال إنتظار المريض المقعد إستيقاظ شريكه , وعندما أعلمته الممرضه ان روح شريكه في العذاب قد إرتقت الى بارئها , بكى وحزن وصلى ترحما عليه ....
وعندما زاره الطبيب يوما ,وكان قد إشتاق لنسمه الحياه المٌطله من النافذه , طلب منه أن ينظر منها , ويحدثه عن مايراه , فتفاجاء الطبيب من الطلب , وأعلمه ان النافذه تطل عل حائط بنايه شاهقه , يحجب أي رؤيه منها , وكانت مفاجأه الطبيب اكبر عندما حدثه المريض عن كل ما كان شريكه في الغرفه يرويه له من مشاهدات جميله , حيث ان الطبيب يعلم جيدا أن الشريك المذكور كان ضريراً ’’ ..
وتوقفت جدتي عن السرد , ونظرت الي , طويلا , بعيونها الثاقبه , لترى علامات الإستفهام والتعجب على وجهي ....
وتابعت بصوتها الحنون ....
’’ أبدا يا إبني لا تقبل ان ترى الحياه من خلال عيون الآخرين , ولا تصدق دائما ما ينقلوه لك , فالله تعالى وهبك عيون لترى من خلالها , وحتى لو كانت هناك مشقه كبيره من اجل ذلك , فلا تبخل على نفسك ببذلها ’’ .....

***
أتذكر حكايه جدتي هذه كلما أمعنت النظر في اوضاع غزه ....

ف’’العميان’’ هناك كثر …
ورغم جدران السجن الكبير التي تحيط بهم من كل حدب وصوب …
ورغم إنعدام مقدرتهم على رؤيه حقيقه العالم الذي يعيشون به …
لايزالوا ينقلون لأهلنا هناك صوره مغلوطه عن الواقع …
ويعدوهم بجنه تجري من تحتها الأنهار …
وبالمن والسلوى المحمله على ظهر سفن كسر الحصار …
وبتحويل غزه الى قوه عظمى …
وبؤره إشعاع ثوره إسلاميه شامله قادره على مجابهه العالم …
وفرض نفسها عاصمه إماره خلافه إسلاميه مزدهره وعادله …

وأما العجزه الذين سلموا مقدراتهم على الرؤيا والتحليل والتفكير لهؤلاء العميان
فهم في غزه أكثر ...

ليست هناك تعليقات: